العالم القاضي ولد اعل امم السباعي
القاظي ولد اعل امم السباعي / بقلم الأستاذ أحمدو ولد شاش
الحمد لله
لم يتح لنا الاطلاع على كثير من تاريخ العلامة القاضي ولد أعل مم وعطائه العلمي الوافر حسب الروايات المتواترة، غير أن مؤسسات متخصصة بدأت تظهر، وجهودا طيبة بدأت تبذل، أتاحت فرصة التعرف على هذا العالم الجليل، وفضلا عن الروايات الشفوية المخضبة بالميتولوجيا الشعبية، فإن بادرة التعاطي مع التراث برزت سماتها مع كتابات الدكتور محمد الحسن ولد محمد المصطفى في كتابه: أعلام علماء أولاد أبي السباع في موريتانيا (طبعة دار الفكر، بيروت) تعتبر منطلقات للراغبين والمهتمين بشأن التراث ونفض الغبار عنه، إضافة إلى ما توافر عن ثقات معاصرين وثقات سبقوهم، يدرك من خلالها مكانة هذا الفقيه العلمية ….
إن التمدد المكاني والزماني للثقافة الشنقيطية، علما وأدبا، يجعل بعض الشخصيات أرقاما لا يمكن تجاوزها بسهولة، ومحطات يجدر الوقوف بها في الأسانيد الفقهية والسلاسل الذهبية في الرواية والضبط كما هو حال العلامة القاضي ولد أعل أمم …
ولا أراني أجدر الحاضرين بالكتابة والبحث في هذا المقام، غير أن رغبة تحدوني، يحثها أولا،الشعور بجلد الذات، في تقاصر حدث،من طرفي أو من طرف غيري، نجم عنه ضياع في تراث عبق بشتى أنواع العلوم الفقهية والأصولية والأدبية، والنظر فيه وإعادة تفعيله، هو فعل بين الواجب العيني والكفائي…. ويحثها ثانيا، وعيي ورؤيتي لما تكون في الذاكرة الجمعية عن هذا الوسط الاجتماعي، في جانب واحد من ممارسته، مما أشاع صورة ظلامية عن حقيقته العلمية، إذ لا يهمني جانب البطولات وما رافقها من شجاعة وقوة بأس وحدة شوكة، فهذه صفات تنتهي أعمارها الافتراضية، بينما المعارف والعلوم تعيش ما شاء لها الله أن تعيش فهذه تمثل التاريخ الإيجابي كما يقول الشيخ علي الرضى بن محمد ناجي رضي الله عنه وأرضاه….
ولابد من إشارة عابرة، من أن عدم الأمن والاستقرار، والترحال الدؤوب طلبا للعلم أو الكلإ أو الرزق، كل ذلك، جعل العلم عرضة للضياع، خصوصا في وسط عصي على الترويض والاستكانة، وهذا ما عصف بتراث كثير من العلماء الأجلاء، وهو بالضبط ما حدث لتراث هذا العالم، والذي ضاعت بعض جهوده في الجنوب قبل رحلته نحو الشمال، وسيكون لذلك مبحث منفرد، ننوي القيام به في هيئة لحفظ التراث والنشر والتأليف تم إنشاؤها في الآونة الأخيرة ….
نسب الرجل
هو القاضي ( وقد ينطق الضاد ظاء، إما بطريقة من يراها كذلك، وإما بما درج عليع الخطاب العامي) بن أعل ممَّ، ويظهر أن الإسم مركب من أعل وأمم، فنقول: القاضي ولد أعل ولد أمم ،من فخذ أولاد المومنه، وهو فخذ ليس بالكثير عددا من أفخاذ هذا الوسط، ففي السبعينيات، أدركت حديثا يتعاطاه رجال الوسط، أن مالا فُقِد لهذا العالم مع صناديق كتبه في الجنوب، لو وُجد، لورثه البشير ولد بزيد وهذا الأخير معروف من أعيان نواكشوط توفي منذ سنوات قليلة … فهو أقرب عاصب إليه … ولست بحاجة إلى التمادي في شجرة النسب التي توصل بنا إلى الجد عامر الهامل المكنى بأبي السباع، ولا بالشجرة التي توصل إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وفاطمة الزهراء رضي الله عنها، فتلك أمور موجودة في كتب ومخطوطات معلومة ….
أما والدته فهي مريم بنت سيد محمد بن أدميس، وتستمر السلسلة متواصلة نحو عامر(أبي السباع) …فهو سباعي عمومة وخؤولة
لم يتح لنا تحديد تاريخ ميلاده،ولا تاريخ وفاته، إلا أنه من المؤكد، إدراكه نهاية القرن 11 هـ وبداية القرن 12هـ ( أي 17 م ـ 18م).
يقول الدكتور يحيى بن البراء متحدثا عن المدارس الفقهية القديمة في موريتانيا، عند كلامه عن مدرسة القاضي بن أعل مم(ق18) في موسوعته (المجموعة الكبرى):
فقيه كبير وقاض وشيخ محظرة من قبيلة أولاد أبي السباع(فخذ أولاد المومنه)، قضى عشرين سنة مع شيخ الشيوخ الحسني الفالي بن بو الفالي حتى تخرج عليه وأسس محظرة كبيرة في منطقة الشمال الموريتاني، من أبرز من درس عليه فيها: أتفغ الخطاط، وهو دفين أناجيم شمال أزويرات، وذكره في أسانيد الفقه في هذه البلاد …. اهـ الاستشهاد.
ويعتبر العلامة القاضي ولد أعل مم من أنجب وأذكى من درس على شيخ الشيوخ الحسني الفال بن بو الفال بشهادة الشيخ نفسه، حيث روي عنه بالتواتر (ومعلوم أن التواتر مما يحصل به العلم الضروري كما يقول الولي العالم الشيخ محمد المامي البركي)،لما سئل عن طلاب محظرته وكانت من أمهات المحاظر وكبرياتها، فكان يقول : في الفقه، أفضلهم(أي الطلاب) فلانا، وأفضل منه ابن ممّ السباعي، وفي النحو، أفضلهم فلانا، وأفضل منه ابن مم السباعي، حتى أتى على كل الفنون التي تدرسها المحظرة، معلنا أن الأفضلية لابن مم السباعي … وما من شك في أن تلك المحظرة حوت من النابغين وخرجت من العلماء البارزين، ما يترك في النفس علو مكانة القاضي العلمية، خصوصا إذا علمنا أنها كانت منطلق أشهر وأبرز علماء البلد.
وقد أدرج وعد من بين الشيوخ الستة المشهورين بالعلم والصلاح، الذين تخرجوا على يد شيخ الشيوخ الحسني، وفي ذلك يقول المؤرخ والأديب أحمد محمود بن يداد الحسني:
عن نجل يداد الرضى محمودِ @ من بعد أحمدْ ذي الهدى والسودِ
شيخُ الشيوخ ذا الذي مؤلفُ @ فتح الشكورجا به يعرفُ
سماه سيد الفاضلُ القبيلةُ @ أولاد بو الفالِّ ومنه جلةُ
قد صدرت أحمد بابجيجبُ @ أصوله وشيخها المهذبُ
القاضي مع آل حبيب الله @ من نسله فبهم يباهي
ونجلُ بارك الإله الشمشوي @ مسكه الفقيه منهم أيضا روي
كذا الفقيه القاضي أي نجل اعل @ ممُّ السباعي الشهير الفضل
من بأناجم ضريحه استقر @ من بعد صيت وفخار قد بهر
والعلوي سيد أحمد الأغر @ من نسله نجل محمدي قد ظهر
وباب نحمود الرضى الأكداشي @ فانسب له الفضل ولا تحاشي
محمد فال ابن عينين المجيد @ من نسله وكان ذا صيت مديد
محنضُ نجلُ أحمد ابن كنت من @ صدروا عنه من أبناء حسن
من فخذ دوكد شلل ذا المذكورُ @ ونسله في قومه مشهورُ
فتح الشكور ذا مؤلف على @ مذهب مالك إمام الفضلا
وكتاب فتح الشكور لأبي عبد الله الطالب محمد بن أبي بكر الصديق البرتلي الولاتي …
وتتجلى مكانة العلامة القاضي ولد أعل مم في مرور الأسانيد الفقهية به، إذ يعتبر من حفظة المذهب المالكي في بلاد شنقيط، من بعد شيخ الشيوخ الحسني، وصولا للأجهوري المالكي المصري … ولأن ضبط الرواية وصحتها يثبت بسمعتُ وحدثني وقرأتُ، فإن السند عن طريق العلامة القاضي أورده بروايات متعددة الطرق:
1) سمعت من العلامة محمد سالم بن عبد الودود، عن أبيه محمد عالي بن عبد الودود، عن شيخه يحظيه بن عبد الودود، عن أحمد بن محمد بن محمد سالم المجلسي، عن والده محمد بن محمد سالم المجلسي، عن حامد بن أعمر عن أحمد محمود بن أتفغ الخطاط، عن والده أتفغ الخطاط، عن القاضي بن أعل مم، عن شيخ الشيوخ الحسني ، عن علي الأجهوري المصري
2) سمعت من العلامة محمد الحسن ولد الددو، عن جده محمد عالي بن عبد الودود، … إلى آخر السلسلة السابقة.
3) وعن طريق محمد عبد الله بن البخاري، عن أبيه البخاري بن الفلالي، عن لمجيدري بن حبيب الله، عن أتفغ الخطاط، عن القاضي بن أعل مم، عن شيخ الشيوخ الحسني ، عن علي الأجهوري …
4) وعن طريق أباه الشريف بن سيدي محمد الشريف الصعيدي، عن محنض باب بن اعبيد، عن حمدي بن الطالب أجود، عن أتشغ الخطاط، عن القاضي بن أعل مم، عن شيخ الشيوخ الحسني، عن الأجهوري…
وهذه السلسلة نفسها يأتي ذكرها في تأصيل بعض الأحاديث النبوية كما سمعت من العلامة محمد سالم بن عدود، وعلى نهجه سار ابن أخته العلامة محمد الحسن ولد الددو وتسمى بالسلسلة الذهبية….
وفي كتاب (إماطة القناع عن شرف أولاد أبي السباع) لمؤلفه الفقيه والمؤرخ سيداتي بن الشيخ المصطف الأبيري، يذكر العلامة القاضي ولد أعل مم ويذكر بعض كراماته ويتفق معه المؤلف أحمد سالم بن عبد الودود السباعي في مؤلفه ( اللؤلؤ المشاع في مآثر أبناء أبي السباع)، ومفاد الرواية المذكورة، أن علما من أعلام البلاد وهو عبد الله بن لمرابط سيدي محمود الحاجي، مر بضريحه عند أناجيم، وخاطبه بنتفة شعرية هذا نصها:
أيا شيخنا القاضي إمام الأكابرِ @ ويا قمرا مثواه بين القناطر
نزورك للحاجات تقضى بأسرها @ وللدين والدنيا وجبر الخواطر
ولا أعتقد أن مطلعا كهذا وشاعرية منداحة كأن صاحبها يقتطف ما طاب له من المفردات على سلاستها وبساطتها، تقف عند بيتين، فلعل عوامل الزمن عبثت ببقيتها … إلا انها على قلتها تبقى شهادة من مبرز عالم عليم بمكانة الرجل الظاهرة والباطنة، إذ تروي الميتولوجيا الشعبية، أن عبدلله بن لمرابط سيدي محمود، كان يطلب إبلا سعاها بعض قطاع الطرق، فتوسل بالشيخ القاضي بن اعل مم بالبيتين السابقين لقضاء حاجته، فكان أن وفقه الله لذلك وشاعت الحادثة وتعاطتها الروايات الشعبية بنفس الطريقة…..
كما تروي الحكايت الميتولوجية ، أنه أشار عليهم بحفر بئر في أناجيم، وكان مكانا قفرا، وأمرهم بذبح ثور عنده ( والثور يطلق عليه أناجيم في الصنهاجية)، وكان لهم أن تيسر لهم الماء، وظلت كذلك كما يروى…
ويروى عن القاضي ولد اعل مم فتاوى فقهية متعددة، وكانت فتاويه مقبولة مستساغة عند الجميع، ومسلم بها عند فقهاء عصره وطلابهم … فقد كانت فتياه، بل إن شئت قلت حكمه، بعدم حرمة زوج رجل، عقد يمينا لى أن رجلا معه من أهل الجنة، فجزم بعضهم ممن يرى التحريم بالأيمان …. فأتى للقاضي بن اعل مم وقص عليه ماحدث، فكتب إليهم وإلى من ألزم الرجل بحرمة زوجه أن لا شيء عليه، وهي قصة سرة الذهب المشهورة، حيث فقد الرجل سرة من الذهب، فلما عثر عليها رجل آخر وأوصلها له، حلف يمينا بأنه من أهل الجنة، ولأن بالمسألة غيبا،فإن أغلب الفقهاء اعتبر لزوم الكفارة والتي عندهم في الحرمة، لكن القاضي بن اعل مم فاجأهم بفتيا قريبة: بأن الرجل الذي عثر على سرة الذهب، أنه رجل تقي، نهى نفسه عن الهوى، ومن كان كذلك، فإن الجنة هي المأوى ….
وكان الولي الصالح الشيخ محمد المامي البركي البزيدي يكن له من التقدير والاحترام ما ينبئ بمكانة الرجل الظاهرة والباطنة فيقول في قصيدته الشهيرة ، المسماة بالدلفينية، مبينا علاقة الرجل بقبيلة أهل بارك الله (باركلل)، المشهورة بالعلم والصلاح والفضل والكرم، فتكون شهادة الشيخ محمد المامي شهادة عدل مبرز، تتميز بالصدق والأمانة (تماما كشهادة الشيخ سيدي عبد الله بن الحاج ابراهيم على سيد محمد التيشتي سكنا السباعي أصلا )، يقول :
والقاضي الأتقى ابن اعل مم راسلهم @ إتقانه قصرت عنه الأتاقين
ومن المؤكد أن صداقة حميمة كانت تربط بين القاضي بن اعل مم والفقيه مسكه بن باركلل، إذ أورد العلامة محمد عبد الله بن البخاري بن الفلالي في كتابه ( العمران) وهو يحكي عن مكانة القاضي بن اعل مم قصة طريفة وقعت بين الصديقين … فقد حدث بين القاضي وزوجه في طريقهما أمرا ما مما يقع بين المرء وأهله، فلما وجد مسكه قص عليه ما حدث وسأله عما يرى في حكمهما، فال له مسكه أمهلني حتى انظر في كتبي… وكان من عادة القاضي أنه إذا رفع يده من طعام لا يعاوده، بل من إزعاجه الالحاح عليه. فلما كان الآكل، هيأ مسكه وجبة شهية للقاضي، حتى أخذ منها ما طاب له، رفع يده، فبادره مسكه بأن يعاود، فقال له : أنت تعرف طبيعتي، إذا رفعت يدي عن طعام لا أعاوده أبدا … فضحك مسكه وقال له: ألا ترى أن ذلك حكم زوجك؟ …
وكانت الحادثة ظرافة وطرافة من مسكه، لأنه لو أفتاه بغير هذا لحاججه بما يقنعه…
وقد كتب مسكه إلى أخيه عبد الله، وقد بعث إليه بابني القاضي يدرسان عليه النحو، فقال له:
إلى أخينا عبيد الله مالكه @ تذكر الخل خلا حبه وجبا
قد خصك القاضي بالإتقان مرتجيا @ إتقانا منك بني علاته الكتبا
لم يعش للقاضي بن اعل مم من أبنائه الذكور الذين ذكرهم الشيخ محمد عبد الله بن البخاري، فأحدهما قتل في حادث، انتهى الجدل فيه بعفو القاضي، ويذكر له ذلك في حلمه ورجاحة عقله وسعة صدره، فمثله ممن له اليد الطولى في الحجج والبراهين الشرعية، قادر على المرافعة وإقامة الحجة ، والابن الآخر لم يكتب له أن يعيش، وهذا ما دفع بالقول أن لوجد له متاع لكان البشير بن بزيد وريثه تعصيبا …
أما بناته، فتذكر المراجع ابنته لميمه بنت القاضي، وهي أم أولاد عبد الرحمن بن عبد الوهاب بن الحاج أحمد. و الماميه التي يذكرها العلامة الديماني: والد بن خالنا في كتاب الآنساب، كانت أما لأسرة من أبناء عمومتها، ولا أدري إن كانت له بنت في الجنوب الموريتاني .
الحمد لله
لم يتح لنا الاطلاع على كثير من تاريخ العلامة القاضي ولد أعل مم وعطائه العلمي الوافر حسب الروايات المتواترة، غير أن مؤسسات متخصصة بدأت تظهر، وجهودا طيبة بدأت تبذل، أتاحت فرصة التعرف على هذا العالم الجليل، وفضلا عن الروايات الشفوية المخضبة بالميتولوجيا الشعبية، فإن بادرة التعاطي مع التراث برزت سماتها مع كتابات الدكتور محمد الحسن ولد محمد المصطفى في كتابه: أعلام علماء أولاد أبي السباع في موريتانيا (طبعة دار الفكر، بيروت) تعتبر منطلقات للراغبين والمهتمين بشأن التراث ونفض الغبار عنه، إضافة إلى ما توافر عن ثقات معاصرين وثقات سبقوهم، يدرك من خلالها مكانة هذا الفقيه العلمية ….
إن التمدد المكاني والزماني للثقافة الشنقيطية، علما وأدبا، يجعل بعض الشخصيات أرقاما لا يمكن تجاوزها بسهولة، ومحطات يجدر الوقوف بها في الأسانيد الفقهية والسلاسل الذهبية في الرواية والضبط كما هو حال العلامة القاضي ولد أعل أمم …
ولا أراني أجدر الحاضرين بالكتابة والبحث في هذا المقام، غير أن رغبة تحدوني، يحثها أولا،الشعور بجلد الذات، في تقاصر حدث،من طرفي أو من طرف غيري، نجم عنه ضياع في تراث عبق بشتى أنواع العلوم الفقهية والأصولية والأدبية، والنظر فيه وإعادة تفعيله، هو فعل بين الواجب العيني والكفائي…. ويحثها ثانيا، وعيي ورؤيتي لما تكون في الذاكرة الجمعية عن هذا الوسط الاجتماعي، في جانب واحد من ممارسته، مما أشاع صورة ظلامية عن حقيقته العلمية، إذ لا يهمني جانب البطولات وما رافقها من شجاعة وقوة بأس وحدة شوكة، فهذه صفات تنتهي أعمارها الافتراضية، بينما المعارف والعلوم تعيش ما شاء لها الله أن تعيش فهذه تمثل التاريخ الإيجابي كما يقول الشيخ علي الرضى بن محمد ناجي رضي الله عنه وأرضاه….
ولابد من إشارة عابرة، من أن عدم الأمن والاستقرار، والترحال الدؤوب طلبا للعلم أو الكلإ أو الرزق، كل ذلك، جعل العلم عرضة للضياع، خصوصا في وسط عصي على الترويض والاستكانة، وهذا ما عصف بتراث كثير من العلماء الأجلاء، وهو بالضبط ما حدث لتراث هذا العالم، والذي ضاعت بعض جهوده في الجنوب قبل رحلته نحو الشمال، وسيكون لذلك مبحث منفرد، ننوي القيام به في هيئة لحفظ التراث والنشر والتأليف تم إنشاؤها في الآونة الأخيرة ….
نسب الرجل
هو القاضي ( وقد ينطق الضاد ظاء، إما بطريقة من يراها كذلك، وإما بما درج عليع الخطاب العامي) بن أعل ممَّ، ويظهر أن الإسم مركب من أعل وأمم، فنقول: القاضي ولد أعل ولد أمم ،من فخذ أولاد المومنه، وهو فخذ ليس بالكثير عددا من أفخاذ هذا الوسط، ففي السبعينيات، أدركت حديثا يتعاطاه رجال الوسط، أن مالا فُقِد لهذا العالم مع صناديق كتبه في الجنوب، لو وُجد، لورثه البشير ولد بزيد وهذا الأخير معروف من أعيان نواكشوط توفي منذ سنوات قليلة … فهو أقرب عاصب إليه … ولست بحاجة إلى التمادي في شجرة النسب التي توصل بنا إلى الجد عامر الهامل المكنى بأبي السباع، ولا بالشجرة التي توصل إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وفاطمة الزهراء رضي الله عنها، فتلك أمور موجودة في كتب ومخطوطات معلومة ….
أما والدته فهي مريم بنت سيد محمد بن أدميس، وتستمر السلسلة متواصلة نحو عامر(أبي السباع) …فهو سباعي عمومة وخؤولة
لم يتح لنا تحديد تاريخ ميلاده،ولا تاريخ وفاته، إلا أنه من المؤكد، إدراكه نهاية القرن 11 هـ وبداية القرن 12هـ ( أي 17 م ـ 18م).
يقول الدكتور يحيى بن البراء متحدثا عن المدارس الفقهية القديمة في موريتانيا، عند كلامه عن مدرسة القاضي بن أعل مم(ق18) في موسوعته (المجموعة الكبرى):
فقيه كبير وقاض وشيخ محظرة من قبيلة أولاد أبي السباع(فخذ أولاد المومنه)، قضى عشرين سنة مع شيخ الشيوخ الحسني الفالي بن بو الفالي حتى تخرج عليه وأسس محظرة كبيرة في منطقة الشمال الموريتاني، من أبرز من درس عليه فيها: أتفغ الخطاط، وهو دفين أناجيم شمال أزويرات، وذكره في أسانيد الفقه في هذه البلاد …. اهـ الاستشهاد.
ويعتبر العلامة القاضي ولد أعل مم من أنجب وأذكى من درس على شيخ الشيوخ الحسني الفال بن بو الفال بشهادة الشيخ نفسه، حيث روي عنه بالتواتر (ومعلوم أن التواتر مما يحصل به العلم الضروري كما يقول الولي العالم الشيخ محمد المامي البركي)،لما سئل عن طلاب محظرته وكانت من أمهات المحاظر وكبرياتها، فكان يقول : في الفقه، أفضلهم(أي الطلاب) فلانا، وأفضل منه ابن ممّ السباعي، وفي النحو، أفضلهم فلانا، وأفضل منه ابن مم السباعي، حتى أتى على كل الفنون التي تدرسها المحظرة، معلنا أن الأفضلية لابن مم السباعي … وما من شك في أن تلك المحظرة حوت من النابغين وخرجت من العلماء البارزين، ما يترك في النفس علو مكانة القاضي العلمية، خصوصا إذا علمنا أنها كانت منطلق أشهر وأبرز علماء البلد.
وقد أدرج وعد من بين الشيوخ الستة المشهورين بالعلم والصلاح، الذين تخرجوا على يد شيخ الشيوخ الحسني، وفي ذلك يقول المؤرخ والأديب أحمد محمود بن يداد الحسني:
عن نجل يداد الرضى محمودِ @ من بعد أحمدْ ذي الهدى والسودِ
شيخُ الشيوخ ذا الذي مؤلفُ @ فتح الشكورجا به يعرفُ
سماه سيد الفاضلُ القبيلةُ @ أولاد بو الفالِّ ومنه جلةُ
قد صدرت أحمد بابجيجبُ @ أصوله وشيخها المهذبُ
القاضي مع آل حبيب الله @ من نسله فبهم يباهي
ونجلُ بارك الإله الشمشوي @ مسكه الفقيه منهم أيضا روي
كذا الفقيه القاضي أي نجل اعل @ ممُّ السباعي الشهير الفضل
من بأناجم ضريحه استقر @ من بعد صيت وفخار قد بهر
والعلوي سيد أحمد الأغر @ من نسله نجل محمدي قد ظهر
وباب نحمود الرضى الأكداشي @ فانسب له الفضل ولا تحاشي
محمد فال ابن عينين المجيد @ من نسله وكان ذا صيت مديد
محنضُ نجلُ أحمد ابن كنت من @ صدروا عنه من أبناء حسن
من فخذ دوكد شلل ذا المذكورُ @ ونسله في قومه مشهورُ
فتح الشكور ذا مؤلف على @ مذهب مالك إمام الفضلا
وكتاب فتح الشكور لأبي عبد الله الطالب محمد بن أبي بكر الصديق البرتلي الولاتي …
وتتجلى مكانة العلامة القاضي ولد أعل مم في مرور الأسانيد الفقهية به، إذ يعتبر من حفظة المذهب المالكي في بلاد شنقيط، من بعد شيخ الشيوخ الحسني، وصولا للأجهوري المالكي المصري … ولأن ضبط الرواية وصحتها يثبت بسمعتُ وحدثني وقرأتُ، فإن السند عن طريق العلامة القاضي أورده بروايات متعددة الطرق:
1) سمعت من العلامة محمد سالم بن عبد الودود، عن أبيه محمد عالي بن عبد الودود، عن شيخه يحظيه بن عبد الودود، عن أحمد بن محمد بن محمد سالم المجلسي، عن والده محمد بن محمد سالم المجلسي، عن حامد بن أعمر عن أحمد محمود بن أتفغ الخطاط، عن والده أتفغ الخطاط، عن القاضي بن أعل مم، عن شيخ الشيوخ الحسني ، عن علي الأجهوري المصري
2) سمعت من العلامة محمد الحسن ولد الددو، عن جده محمد عالي بن عبد الودود، … إلى آخر السلسلة السابقة.
3) وعن طريق محمد عبد الله بن البخاري، عن أبيه البخاري بن الفلالي، عن لمجيدري بن حبيب الله، عن أتفغ الخطاط، عن القاضي بن أعل مم، عن شيخ الشيوخ الحسني ، عن علي الأجهوري …
4) وعن طريق أباه الشريف بن سيدي محمد الشريف الصعيدي، عن محنض باب بن اعبيد، عن حمدي بن الطالب أجود، عن أتشغ الخطاط، عن القاضي بن أعل مم، عن شيخ الشيوخ الحسني، عن الأجهوري…
وهذه السلسلة نفسها يأتي ذكرها في تأصيل بعض الأحاديث النبوية كما سمعت من العلامة محمد سالم بن عدود، وعلى نهجه سار ابن أخته العلامة محمد الحسن ولد الددو وتسمى بالسلسلة الذهبية….
وفي كتاب (إماطة القناع عن شرف أولاد أبي السباع) لمؤلفه الفقيه والمؤرخ سيداتي بن الشيخ المصطف الأبيري، يذكر العلامة القاضي ولد أعل مم ويذكر بعض كراماته ويتفق معه المؤلف أحمد سالم بن عبد الودود السباعي في مؤلفه ( اللؤلؤ المشاع في مآثر أبناء أبي السباع)، ومفاد الرواية المذكورة، أن علما من أعلام البلاد وهو عبد الله بن لمرابط سيدي محمود الحاجي، مر بضريحه عند أناجيم، وخاطبه بنتفة شعرية هذا نصها:
أيا شيخنا القاضي إمام الأكابرِ @ ويا قمرا مثواه بين القناطر
نزورك للحاجات تقضى بأسرها @ وللدين والدنيا وجبر الخواطر
ولا أعتقد أن مطلعا كهذا وشاعرية منداحة كأن صاحبها يقتطف ما طاب له من المفردات على سلاستها وبساطتها، تقف عند بيتين، فلعل عوامل الزمن عبثت ببقيتها … إلا انها على قلتها تبقى شهادة من مبرز عالم عليم بمكانة الرجل الظاهرة والباطنة، إذ تروي الميتولوجيا الشعبية، أن عبدلله بن لمرابط سيدي محمود، كان يطلب إبلا سعاها بعض قطاع الطرق، فتوسل بالشيخ القاضي بن اعل مم بالبيتين السابقين لقضاء حاجته، فكان أن وفقه الله لذلك وشاعت الحادثة وتعاطتها الروايات الشعبية بنفس الطريقة…..
كما تروي الحكايت الميتولوجية ، أنه أشار عليهم بحفر بئر في أناجيم، وكان مكانا قفرا، وأمرهم بذبح ثور عنده ( والثور يطلق عليه أناجيم في الصنهاجية)، وكان لهم أن تيسر لهم الماء، وظلت كذلك كما يروى…
ويروى عن القاضي ولد اعل مم فتاوى فقهية متعددة، وكانت فتاويه مقبولة مستساغة عند الجميع، ومسلم بها عند فقهاء عصره وطلابهم … فقد كانت فتياه، بل إن شئت قلت حكمه، بعدم حرمة زوج رجل، عقد يمينا لى أن رجلا معه من أهل الجنة، فجزم بعضهم ممن يرى التحريم بالأيمان …. فأتى للقاضي بن اعل مم وقص عليه ماحدث، فكتب إليهم وإلى من ألزم الرجل بحرمة زوجه أن لا شيء عليه، وهي قصة سرة الذهب المشهورة، حيث فقد الرجل سرة من الذهب، فلما عثر عليها رجل آخر وأوصلها له، حلف يمينا بأنه من أهل الجنة، ولأن بالمسألة غيبا،فإن أغلب الفقهاء اعتبر لزوم الكفارة والتي عندهم في الحرمة، لكن القاضي بن اعل مم فاجأهم بفتيا قريبة: بأن الرجل الذي عثر على سرة الذهب، أنه رجل تقي، نهى نفسه عن الهوى، ومن كان كذلك، فإن الجنة هي المأوى ….
وكان الولي الصالح الشيخ محمد المامي البركي البزيدي يكن له من التقدير والاحترام ما ينبئ بمكانة الرجل الظاهرة والباطنة فيقول في قصيدته الشهيرة ، المسماة بالدلفينية، مبينا علاقة الرجل بقبيلة أهل بارك الله (باركلل)، المشهورة بالعلم والصلاح والفضل والكرم، فتكون شهادة الشيخ محمد المامي شهادة عدل مبرز، تتميز بالصدق والأمانة (تماما كشهادة الشيخ سيدي عبد الله بن الحاج ابراهيم على سيد محمد التيشتي سكنا السباعي أصلا )، يقول :
والقاضي الأتقى ابن اعل مم راسلهم @ إتقانه قصرت عنه الأتاقين
ومن المؤكد أن صداقة حميمة كانت تربط بين القاضي بن اعل مم والفقيه مسكه بن باركلل، إذ أورد العلامة محمد عبد الله بن البخاري بن الفلالي في كتابه ( العمران) وهو يحكي عن مكانة القاضي بن اعل مم قصة طريفة وقعت بين الصديقين … فقد حدث بين القاضي وزوجه في طريقهما أمرا ما مما يقع بين المرء وأهله، فلما وجد مسكه قص عليه ما حدث وسأله عما يرى في حكمهما، فال له مسكه أمهلني حتى انظر في كتبي… وكان من عادة القاضي أنه إذا رفع يده من طعام لا يعاوده، بل من إزعاجه الالحاح عليه. فلما كان الآكل، هيأ مسكه وجبة شهية للقاضي، حتى أخذ منها ما طاب له، رفع يده، فبادره مسكه بأن يعاود، فقال له : أنت تعرف طبيعتي، إذا رفعت يدي عن طعام لا أعاوده أبدا … فضحك مسكه وقال له: ألا ترى أن ذلك حكم زوجك؟ …
وكانت الحادثة ظرافة وطرافة من مسكه، لأنه لو أفتاه بغير هذا لحاججه بما يقنعه…
وقد كتب مسكه إلى أخيه عبد الله، وقد بعث إليه بابني القاضي يدرسان عليه النحو، فقال له:
إلى أخينا عبيد الله مالكه @ تذكر الخل خلا حبه وجبا
قد خصك القاضي بالإتقان مرتجيا @ إتقانا منك بني علاته الكتبا
لم يعش للقاضي بن اعل مم من أبنائه الذكور الذين ذكرهم الشيخ محمد عبد الله بن البخاري، فأحدهما قتل في حادث، انتهى الجدل فيه بعفو القاضي، ويذكر له ذلك في حلمه ورجاحة عقله وسعة صدره، فمثله ممن له اليد الطولى في الحجج والبراهين الشرعية، قادر على المرافعة وإقامة الحجة ، والابن الآخر لم يكتب له أن يعيش، وهذا ما دفع بالقول أن لوجد له متاع لكان البشير بن بزيد وريثه تعصيبا …
أما بناته، فتذكر المراجع ابنته لميمه بنت القاضي، وهي أم أولاد عبد الرحمن بن عبد الوهاب بن الحاج أحمد. و الماميه التي يذكرها العلامة الديماني: والد بن خالنا في كتاب الآنساب، كانت أما لأسرة من أبناء عمومتها، ولا أدري إن كانت له بنت في الجنوب الموريتاني .
تعليقات
إرسال تعليق